حتى لا ندمر بلدنا بالحرص الكاذب عليه !!

في مقالتي السابقة ( الحمام الذي يلبس أكفان الموتي ورايات الاستسلام ) قلت بالحرف الواحد ( الكلام الذي يتردد حينا عن الوطن البديل وعن حل الدول الثلاث إنما يندرج ضمن أنشطة المشككين داخل الأردن الذين ، الذين أشار إليهم جلالة الملك- حفظه الله ورعاه – في أكثر من لقاء لجلالته مع فعاليات أردنية ، فالمؤامرة الصهيونية ليست من السطحية والغباء بحيث تقبل بدولة فلسطينية على حدودها وخارج كامل التراب الوطني الفلسطيني ، والحديث عن الأردن كوطن بديل للفلسطينيين يشبه إلى حد بعيد وضع العقارب داخل القميص بالنسبة للكيان الصهيوني ) انتهى الاقتباس .

أمس ، يوم الاثنين الثاني من آذار ، التقى جلالته مع فعاليات أردنية في الديوان الملكي الهاشمي ، وعندما تحدث أحدهم وتساءل عن موضوعة الوطن البديل ، جاء رد جلالته مستوقفا لكل مراقب ومعبرا عما يشعر به من ضيق إزاء هذا اللغط والكلام حول هذه الموضوعة التي باتت عنوانا لبعض الناس وبخاصة السياسيين المتقاعدين والمتربصين وأعضاء نوادي المناسف ، إذ قال جلالته ( ياريت نحن الأردنيين نأخذ قرار الآن انه نبطل حكي عن الوطن البديل ، لأنه إحنا اللي بنفتح الموضوع ، وعلينا ألا نلتفت إلى أي كلام حول هذا الموضوع من إسرائيليين أو غيرهم ) .

أشعر أن صبر جلالته قد نفذ أمام إصرار البعض على مواصلة الحديث عن الوطن البديل ، كما أنني على يقين أن جلالته يدرك بعمق خطورة المسألة وتراكماتها وتأثيراتها الخطيرة سواء على وحدتنا الوطنية المقدسة أو على القضية الفلسطينية بصورة مباشرة وغير مباشرة ، وبعد حديث جلالته أمس فأنني أجرؤ على القول أننا أيضا نواصل دس العقارب السامة القاتلة تحت قميصنا الأردني .

لم تبدأ مهزلة الوطن البديل والإصرار على تحويلها من قضية وطنية إلى قضية إقليمية اليوم أو قبل عام ، بل بدأت منذ عقود ، ولأننا لم نتصد لها بالتوعية والتعبئة والممارسة ظلت تتسع وتتعمق حتى حولت الأردنيين الحريصين على وطنهم بطريقة ممجوجة ومدمرة إلى أعداء حقيقيين لهذا الوطن الطيب ، ولعل الأردن القطر العربي الوحيد الذي لا يمكن له ألا أن يكون قوميا نبيلا وحقيقيا ، فهذا البلد الذي نحبه ولا نملك سواه هو ثمرة غالية ونبتة أصيلة للثورة العربية الكبرى ، ولم يكن آباؤنا وأجدادنا يتوقفون عند أصل هذا الأردني أو ذاك أو عند منبته ، وعندما كان المغفور له الراحل العظيم الملك الحسين يؤكد على وحدتنا الوطنية ويؤكد على أن كل من يمس هذه الوحدة هو عدو لجلالته ويرفع شعار أن بيته هو بيت الأردنيين جميعا فانه لم يكن يتوقف عند المكان الذي جاء منه هذا الأردني : الكرك أم الخليل والسلط أم نابلس واربد أم طبريا ، فالأردنيون جميعا كانوا أسرته الواحدة التي لا فرق بين فرد فيها وفرد آخر إلا بالعمل الطيب النبيل الذي يستهدف الخير لكل أهله والا بالعمل الخبيث المدان الذي يسعى لالحاق الأذى به ، ولا أحب أن ينسب للأردنيين ما ليس فيهم ولهم من توقف مؤسف أمام محاصاصات وطنية أو دينية أو مذهبية أو مناطقية أو عشائرية او سوى هذه مما يفرق ولا يوحد ومما يدمر ولا يبني ومما يقزم الولاء للوطن كله إلى ولاء لمدينة دون أخرى والولاء للشعب كله من عشيرة دون أخرى .

ان التوقف – دائما يكون عن خبث وجهل – مع مقولة الوطن البديل آذانا كثيرا ، والأذى الذي لا يمكن دفعه عنا هو استمرار البعض في إدارة الاسطوانة المشروخة ، ويشكل إساءة مباشرة للأردنيين والفلسطينيين من أبناء هذه الأسرة الواحدة ، فهو بالنسبة لنا كأردنيين تشويه لانتمائنا القومي الذي عرفنا به ، وهو بالنسبة لإخوتنا الفلسطينيين الأردنيين اتهام باستعدادهم لخيانة وطنهم الذي طردوا منه وليس في وسعهم العودة إليه بسبب المؤآمرة الدولية – الصهيونية عليهم وعلى وطنهم ، وهو اتهام أقل ما يمكن وصفه به انه ساذج وظالم .

أمس الأول الأحد ، تابعت على قناة الجزيرة تحقيقا عن فلسطينيين هاجر آباؤهم وأجدادهم إلى جمهورية تشيلي في أمريكا الجنوبية واضطر بعض أبنائهم إلى اللحاق بهم بسبب ظروف الفلسطينيين بالغة القسوة ، كانوا يتحدثون باللغة التي أنستهم لغتهم ألام العربية ، وكانت عيونهم تسح دموعها على خدودهم وهم يعبرون عن اشتياقهم لوطنهم وحنينهم الحقيقي ورغبتهم الصادقة في العودة إليه والعيش فوق ترابه واحتضانه لأجسادهم رغم استقرارهم الطويل وأوضاعهم المالية المريحة جدا هناك ، فالوطن غال على أبنائه، والهنود الحمر ما يزالون يرون ويتحدثون عن الولايات المتحدة كوطن لهم تعرضوا للابادة على ترابه وتعرضوا لموجات متلاحقة من العذابات ومن الرعاية الرسمية ولكن قلوبهم وعقولهم ما زالت مزدحمة بتاريخ أجدادهم وذكريات الوطن الهندي الجميل .

لقد أخطأنا كثيرا في حق أنفسنا كأردنيين وكفلسطينيين نعيش على هذا الوطن الواحد ، والحاجة اليوم إلى تنمية سياسية تؤكد على وحدتنا ملحة أكثر من أي وقت مضى ، فالمواطنون لهم حساباتهم الأكثر صدقا وحرصا ، أما شعبنا فان بعض مشاعره الإقليمية لدى بعضه لا تصل إلى قلبه وعقله في بلدنا ، ولقد شاهدت مرارا في مدينتي الكرك كيف كان أبناؤها يصعدون إلى سيارات الشرطة لينزلوا منها مواطنين مصريين وعراقيين وجنسيات عربية أخرى يتم إيقافهم لتسفيرهم ، وكان رجال الشرطة يراقبون المشهد وهم يضحكون ، فالأوامر الرسمية لا تبدل وجدان الإنسان ولا تجبره على القيام بما ليس مقنعا به ، وحجة شباب الكرك هي هي دائما : هولاء ضيوف علينا وباحثون عن أسباب عيش كريم لهم ولأسرهم ، وقبل عشرين عاما عمدت حكومة على محاولة تغيير اسم نادي الوحدات إلى الضفتين فاستاء كثيرون إلا من حاول تمرير القرار ولم يرتح سكان المخيم إلا عندما اختير المرحوم عاكف الفايز رئيسا للنادي باسمه الجديد ثم انتهى الأمر في هدوء باستعادة النادي لاسمه .

وفي جامعاتنا ما يشبه الفتنة النائمة وعلينا أن نقف معها بكل إحساس وانتماء وطنيين وقوميين ، فعندما تفوت الفرصة سنجد أنفسنا جميعا داخل حقل ألغام ، والأمر المؤكد إن قرار منع التدخين في الأماكن العامة ليس أكثر أهمية من إصدار قرار بالتوقف عن العبث بأمن بلدنا واستقراره ووحدة شعبنا وقدسيتها ، ودون أن ننسى لحظة واحدة أن غالبية السياسيين التي تؤكد انتماءها للوطن وولاءها للقيادة هم الذين يعبثون بهذه الوحدة وذلك الأمن ، ولابد من مجادلتهم بالحسنى أو معاتبتهم بقسوة .